بين الوسائل والغايات …
محويت نت.
حمير العزكي
أصيب العقل العربي أولا ثم العقل المسلم في كثير من مراحل حياته بحالة من الجمود المتفاوت حسب كل مرحله فمن الشلل التام الذي جعله يعبد الأصنام الحجرية والخشبية وغيرها مما يصنعه بيديه ويشتريه بماله ويعلم انها لاتضره ولاينفعه ، الى التبلد الذي سهل إستعباده للإصنام البشرية من ولاة أمره الطواغيت الظالمين ، وحتى التغييب الذي أخضعه لأصنام معنويه صنعها في وعيه حكامه المحكومون من أعدائه ، وفي كل مرحلة زمنية للعقل العربي وعند كل وجه من أوجه الجمود التي عاشها ، كانت هناك الكثير من المحاولات الجادة والجاهدة لاستنهاضه وتحريكه واستعادة قدرته على التفكير ، محاولات حافلات بالآيات والحقائق والأعلام و بذلت فيها التضحيات الجسام ، ولكنها كلها قوبلت بالخذلان و ختمت بخسران العقل العربي لفرصة تلو فرصة للتحرر من قيود الجمود وأغلال الإضلال .
إن عجز العقل العربي والمسلم في التفريق بين الغايات والوسائل و التمييز بين متطلبات كل منهما كانت ومازلت أكبر مشكلاته على الاطلاق وأعصاها على الحل ، فعندما فكر العربي الأول في الأصنام كوسيلة تعبديه تقربه من الله لم يلبث طويلا حتى حول تلك الوسيلة الى غاية منصرفا الى عبادتها من دون الله ، وعندما اعتقد العربي المسلم أن طاعة الحاكم والسلطان أو المذهب وسيلة لحماية الدين والحفاظ عليه سرعان ما اصبحت حماية السلطان والحاكم والمذهب غاية عنده وطاعة الدين وسيلته في ذلك ، و مهما بلغ الخطأ في المذهب أو ظهر الحق والصواب في غيره فلامجال للتخلي عنه ، ومهما بلغ السلطان من العتو والفجور والفسوق والظلم والطغيان والمخالفة بل والمنازعة للدين وقيمه ومبادئه لأن الله ينزع بالسلطان مالاينزع بالقران !! فكان بقاءه غاية اسمى بإعتباره الطريقة المضمونة الأكثر فاعلية في اقامة واستقرار شؤون الحياة فيما الدين طريقة ثانوية محتملة النتائج !!!! ولذلك نرى الأغلبية تقف الى جانب السلاطين والحكام وتصطف معهم في مواجهة من ينازعهم حتى ولو كان الدين الحق .
ويبدو أن التقدم العلمي والتطور المعرفي الإنساني وما صاحبهما من ثورة تكنولوجية مؤخرا لم تحل بين العقل العربي الحديث وبين موروثه الاستشكالي بين الوسائل والغايات فمازال عاجزا عن التفريق بينهما وغير قادر على التمييز بين ما تفرضه الغايات من الثبات والاصرار والصلابة في التمسك بها وبين ما تتيحه الوسائل من فرص و مرونة في إمكانية تعديلها وتطويرها وتحديثها بل وحتى التخلي عنها ، فهاهو بعد ان إطلع على نظم الحكم في العالم وطرق الوصول الى السلطة و عرف منها الجمهورية و المدنية و الديموقراطية والتي تعتبر في أساسها ومضمونها وسائل لإدامة الاستقرار و لإقامة العدل والمساواة وحماية الحقوق والحريات ، ولكنه رغم ذلك ما فتئ ينظر اليها بإعتبارها غايات لايمكن التخلي عنها أو القبول بمجرد التفكير في وجود بدائل لها أو حتى النقاش في سلبياتها وعدم ملائمتها في بعض الظروف ، بل بلغ الامر بالبعض الى تقديسها كثوابت أقدس من ثوابت الدين واعتبار مبادئها أصوب ونظرياتها أصلح من كل القيم والشرائع ، لتتجلى حالة الجمود المتوارثة في العقل العربي من خلال غيابه التام والمتطرف .