دروس تاريخية من حياة الإمام زيد بن علي(ع)
بقلم :فاضل الشرقي
مــــدخــــــــل:
بعد معركة الطف التي تعرض لها أهل البيت(ع) بكربلاء في العاشر من محرّم الحرام عام 62ه, وانتهت بمقتل الإمام الحسين السبط ومجموعة من أهل بيته, ونفر من أصحابه سلام الله عليهم جميعا, ممن بقوا على عهد رسول الله ودين الإسلام في ذلك العالم, ساد النّاس أنواع الظلم والترهيب, تحت سطوة الأمويّن, حيث تسلّطوا على رقاب الأمّة يعيثون في الأرض الفساد, يصيّرون الحق باطلاً والباطل حقاً, والمنكر معروفاً والمعروف منكراً, واتسعت سطوتهم على رقاب النّاس من عبيد الدنيا وخدّام السّياسة, وعمدوا إلى تثبيت دعائم حكم معاوية بن أبي سفيان, وترسيخ بدعه وأفكاره وضلالاته, بالظّلم والعدوان وسفك الدماء, وطمس معالم الإسلام, وقد لقي أهل البيت وشيعتهم الأخيار أشدّ أنواع صنوف الظلم, والبطش, والقهر, والتنكيل, في حياتهم وبعد موتهم, على أيدي جلاّديّ الأمم والشّعوب, من الأموّيين والعبّاسييّن, ومن سار على منوالهم.
ومع إشراقة شمس الحرية والفداء, وثوراة الصّحوة الإسلاميّة, يبقى التاريخ الإسلامي معلّم الإنسان وواعظه الناصح, الّذي يحمل إليه الخبرة, والتجربة الحيّة, والدروس والعبر, ويكون أهل البيت (ع) في مقدّمته روّاداً للفكر والحريّة, وقادةً لحركة النهضة, والتّغير والإصلاح, وبحقّ إنّ دراسة التاريخ الإسلاميّ, وسيرة أهل بيت رسول الله, معيناً لا ينضب من الوعي, والمعرفة, وفهم الإسلام بحركته الرساليّة والسّياسيّة, وقدرته الإجتماعية والحضّارية, وتعامله مع الحياة, وفي المقدمة تاريخ أئمة الزّيديّة, بقيادة الإمام الأعظم زيد بن علي, الذي يعدّ امتداداً صحيحاً لحركة الرسول, ورسالة الإسلام, وسيرة الإمام علي, والحسن, والحسين (ع), وفي ال25 من شهر محرّم الحرام من كلّ عام, تطلّ علينا ذكرى مهمّة جداً, هي ذكرى استشهاد الإمام زيد بن علي, وسنقدم في هذه الدروس المتواضعة شذرات ونفحات, وصفحات مشرقة مضيئة من حياته (ع), على خطى جدّه الحسين, وعليّ, ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
الإسم والكنية:-
هو أبو الحسين: ((زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام)), وهو الإمام الأعظم من أئمة المسلمين, ووالده هو خيرة أهل زمانه وأفضلهم (علي بن الحسين), وهو أشهر من أن نعرّف به, سيّد الساجدين وزين العابدين, ولد في الخامس من شعبان سنة (38ه), وتوفى في 25 من شهرّ محرّم الحرام سنة (95ه), شهد مع أبيه الحسين معركة كربلاء, وكان مريضاً جداً, وحمل مع الأسارى من أهل البيت إلى يزيد بن معاوية, وأمر بهم إلى المدينة المنّورة.
ووالدته هي (جيدا), أهداها إلى والده المختار الثقفيّ, قائد ثورة التوّابين بعد مقتل الحسين.
المولد والنشأة:-
بذل والده زين العابدين علي بن الحسين جهداً كبيراً في إصلاع واقع الأمة, والعمل على ربطها من جديد بالله سبحانه وتعالى, وتأهيلها, وتثقيفها بثقافة القرآن الكريم, نظراً لما كانت قد وصلت إليه من ضلال وانحراف من بعد رسول الله, وصاغ توجيهاته للأمة بشكل أدعية عظيمة أثرت عنه, وأخذ ينشر الصلاح, ومكارم الأخلاق, والإهتمام بقضاء حوائج الناس, ورعاية الفقراء والمساكين, والإهتمام بشؤون المستضعفين, وأجهد نفسه وتفانى في التهيئة والإصلاح في أوساط المجتمع, في تلك الظروف القاسية, والمحنة العصيبة, التي مر بها أهل البيت وشيعتهم, تحت وطأة حكم الأموين, ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, كان قد بشر بقائم من أهل البيت من أبناء الحسين اسمه (زيد), ونظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى وقال: ((المقتول في الله المصلوب من أمتي سمي هذا)), وأشار إلى زيد بن حارثة .. ثم قال: ((أدن مني يا زيد زادك الله حباً عندي فإنك سمي الحبيب من ولدي زيد ) (1).
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, أنه قال للحسين(ع): ((يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين, يدخلون الجنة بغير حساب)) (2).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقتل رجل من أهل بيتي فيصلب, لا ترى الجنة عين رأت عورته)) (3).
وروي عن الإمام علي (ع) أنه قال: ((يخرج بظهر الكوفة رجل يقال له: زيد في أبهة (يعني ملك), لا يسبقه الأولون, ولا يدركه الآخرون, إلاّ من عمل بمثل عمله, يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير أو شبه الطوامير, حتى يتخطوا أعناق الخلق, تتلقاهم الملائكة فيقولون: هؤلاء خلف الخلف ودعاة الحق, ويستقبلهم رسول الله فيقول: يا بني قد عملتم ما أمرتم به فادخلوا الجنة بغير حساب)) (4).
وكان والده قد بشر بولادته في المنام, حيث يقول لأحد أصحابه متحدثاً عن ذلك: ((رأيت كأن رسول الله أدخلني الجنة, وزوجني بحورية لم أر أحسن منها, ثم قال لي: يا علي بن الحسين, سمي المولود زيداً فيهنئك زيد)) .. فلما أتى إليه صاحبه قاصداً الحج, وجده يحمل طفلاً صغيراً, فقال له زين العابدين: ((هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً)) (5).
ومع اشراقة يوم جديد, ووالده قائم في محرابه, إذ زفت إليه البشرى بمولود جديد, فأشرقت الأرض بنور ربها, وأخذ والده المصحف الشريف, واستفتحه ونظر إلى أول آية فكانت: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما), فأطبقه وسجد لله ركعتين ثم فتحه فخرج له: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون), فأطبق المصحف, وفتحه مرة ثالثة فكانت: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم), فأطبق المصحف, وضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون, عزيت في ولدي هذا, إنه زيد أما والله ما أجد من ولد الحسين في يوم القيامة أعظم منه وسيلة, ولا أصحاباً آثر عند الله من أصحابه) (6).
ولد الإمام زيد (ع) في المدينة المنورة سنة (75ه), ونشاء بين ربوعها وفي آل بيت النبي, وكنف والده زين العابدين, وأخيه محمد بن علي الباقر, وكان والده يهتم به كثيراً, ويوليه رعاية خاصة, ويحوطه ببالغ الرعاية والإهتمام, يقول الإمام زيد: (كنت أقعد مع أبي على الخوان, فيلقمني البضعة السمينة, ويبرد اللقمة الحارة), وقد انعكست هذه الرعاية والتربية على مسيرة حياته, وشخصيته, علماً, وثقافتاً, وزهداً, وورعاً, وبصيرة, وصلابة في الحق, وجهاداً في سبيل الله سبحانه وتعالى, وتنقل عليه السلام بين الحجاز, والشام, والعراق, داعياً إلى الحق, ناشراً للعدل والخير, مقارعاً للظلم والفساد, ومحذراً من مفاسد بني أمية وضلالهم.
حليف القرآن:-
يقول أحد أصحابه دخلت المدينة وكلما سألت عن زيد بن علي قيل لي: (ذاك حليف القرآن), عرف عليه السلام أن ثقافة الأمة لم تعد صحيحة, وقد طغى عليها الضلال والإنحراف, وأصبحت ضحية للثقافة المغلوطة, فعمد إلى الإعتماد على القرآن الكريم, وتدبّره, وتأمّله, وعرض الواقع عليه, واستخراج الحلول منه, وثقيف الأمة, وتبصرتها به, وتحرّك به لإصلاح أمر أمّة جده رسول الله, وقد روي أنّه عكف على القرآن ثلاثة عشر عاماً, حتى كان بصره الذي يبصر به, وسمعه الذي يسمع به, ولم يكن اعتكافه على القرآن انطواءً, وانعزالاً للناس والواقع, وإنّما تحرّك وحرّك الأمة به, واعتمد عليه دون سواه, وعاش مع القرآن, وعايشه بكل ما تعنيه الكلمة, حتّى ذاع صيته, واشتهر بحليف القرآن, لأنّه عرف أنّ هذا الخواء الذي تعيشه الأمة, وهذا الواقع السيئ, والانحراف والضّلال, لا يمكن معالجته إلاّ بكتاب الله سبحانه وتعالى, فكانت علاقته بالله متينة, وصلته به قويّة, يقول أخوه عبدالله: (كان أخي زيد إذا قراء القرآن بكى حتى نظنه سيموت), وكان عليه السلام إذا ذكر الله, أو سمع شيء من ذكر الله, أغمي عليه, حتّى يقول القائل: ما هو بعائد إلى الدنيا, وكان إذا سمع آيات الترغيب, والترهيب, ماد كما تميد الشجرة من الريح في اليوم العاصف.
زهده وورعه:-
عاش عليه السلام زاهداً, ورعاً عن محارم الله, وتجسّدت في شخصيّته كلّ معاني الإسلام, وقيمه العظيمة, وكان عليه السلام يقول: (والله ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي, ولا انتهكت لله محرماً منذ عرفت أنّ الله يعاقب عليه), وروي عن أحد أصحابه قوله: (خرجت مع زيد بن علي ليلاً إلى الجبان, وهو مرخيّ اليدين لا شيء معه, فقال لي: يا أبا قرّة أجائع أنت؟ قلت نعم, فناولني كمثراة ملئ الكف, ما أدري أريحها أطيب, أم طعمها؟ ثمّ قال لي: يا أبا قرّة أتدري أين نحن؟ نحن في روضة من رياض الجنّة, نحن عند قبر أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام, ثمّ قال لي: يا أبا قرّة, والّذي يعلم ما تحت وريد زيد بن عليّ, إنّ زيد بن عليّ لم يهتك لله محرماً منذ عرف يمينه من شماله, يا أبا قرّة من أطاع الله أطاعه ما خلق), وشهد له بذلك علماء عصره, فقال عنه عامر الشّعبي: (ما رأيت أزهد من زيد بن علي), وقال أبو خالد الواسطي: (ما رأيت هاشمياً أزهد, ولا أورع من زيد بن علي).
الفصاحة والبلاغة:-
كان عليه السلام فصيحاً بليغاً, أشبه ما يكون بجدّه أمير المؤمنين علي (ع), وخطبه, ورسائله تشهد له بذلك, ومناظرته مع هشام بن عبدالملك, وعلماء الشّام, وما أثر عنه من حكم وأشعار, وشهد له بالفصاحة والبلاغة, وقوّة الحجّة, والمنطق, والبرهان, من هم أهلها في عصره, فقال عنه الكميت بن زياد الأسدي: (ما رأيت هاشمياً أبلغ من زيد بن علي), وقال عنه هشام بن عبدالملك بن مروان: (إنّ له لساناً أحد من السنان, وأبلغ من السّحر, والكهانة), وروي أنّ سيبويه كان يحتجّ فيما يذهب إليه, بما روي عن زيد بن عليّ من أشعار.
الإمام ومسؤولية التغير والإصلاح:-
لم يأل (ع) جهداً في طلب الإصلاح في أمة جده رسول الله, على ما سار عليه جده علي بن أبي طالب, والحسن والحسين(ع), وكان(ع) يقول: (لا يسعني أن أسكت, وقد خولف كتاب الله, وتحوكم إلى الجبت والطاغوت), وكان (ع) دائم التفكير في واقع الأمة الإسلامية, وما آلت إليه من تدني في القيم, وانحلال في الأخلاق, فتجرّد(ع) للدفاع عن الحقّ, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكان يقول: (والله لو لم يقاتلهم إلاّ أنا وولدي يحيى لفعلت).
لم يسعه أن يسكت, وهو يرى الظّلم والإستبداد يسود, والضّلال والمنكر ينتشر, فوهب نفسه للتّغير, وطلب الإصلاح, مهما كانت النتائج, وعندما خفقت الرايات فوق رأسه, قال: (الحمد لله الّذي أكمل لي ديني, والله أني كنت أستحي أن أرد على جدّي رسول الله, ولم آمر في أمته بالمعروف, ولم أنه عن المنكر), وقال عبدالله بن مسلم بن بابك, وهو أحد أصحابه: (خرجنا مع زيد بن علي إلى مكّة, فلمّا كان نصف الليل, واستوت الثّريّا قال لي: يا بابكي أما ترى هذه الثّريّا ما أبعدها؟ أترى أحد ينالها؟ فقلت لا, قال: والله لوددتّ أنّ يدي ملصقة بها فأقع إلى الأرض, أو حيث أقع, فأتقطّع قطعةً, قطعة, ويصلح الله بذلك أمر أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم), وقال سلام الله عليه: (والله لو علمت رضاء الله عزّ وجلّ, في أن أقدح لي ناراً بيدي, حتّى إذا اضطرمت رميت بنفسي فيها لفعلت).
إكبار وإجلال:-
حضي (ع) بمكانية عالية, وإكبار وإجلال بين أهل زمانه, نضراً لما كان يحمله من صفات, وما تميّز به من خلق عظيم, وجدارة بحمل المسؤوليّة, فكان ابن أخيه جعفر الصادق, وعبدالله بن الحسن الكامل, يمسكان له الرّكاب, ويسوّيان ثيابه على السّرج, وقال عنه أخوه الباقر: (أمّا زيد فلساني الذي أنطق به). وقال عنه عبدالله بن الحسن الكامل: (علامة بيننا وبين الناس عليّ بن أبي طالب, وعلامة بيننا وبين الشيعة زيد بن عليّ, فمن تبعه فهو شيعيّ, ومن لم يتبعه فليس بشيعيّ), وقال: (لم أر فينا ولا في غيرنا مثله), وقال عنه جعفر الصّادق: (كان والله أقرأنا لكتاب الله, وأفهمنا لدين الله).
وقال عنه سفيان الثّوريّ: (قام والله مقام الحسين بن علي, وكان أعلم خلق الله بكتاب الله, والله ما ولدت النّساء مثله), وقال عنه أبو حنيفة, كبير أئمة المذاهب السّنيّة: (ما رأيت في زمنه أفقه منه, ولا أعلم, ولا أسرع جوابا, ولا أبين قولاً, لقد كان والله منقطع النضير).
السّرّيّة في العمل:-
يحتاج العمل في سبيل الله في كثير من جوانبه إلى أخذ الحيطة والسرية في العمل, والجهاد مبني على أسس, وقواعد ترتكز عليها مبادئ الإسلام, وإذا اختلّ أيّ نضام, ولو بسيط فيها, فسرعان ما تتخلخل هذه الأسس, والسّرّيّة, والكتمان مبدئ مهمّ, قامت عليه أعمدة الإسلام يوماً ما, في دار الأرقم بن أبي الأرقم, بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وأثر عنه قوله: (استعينوا على نجاح أموركم بالكتمان), وتحرّك أهل البيت يمتاز بالدّقّة, والتّنظيم, والكتمان, وقد روى أنّ رجلاً من أصحاب الإمام زيد, كان يمشي في أزقّة الكوفة, ويحمل عصاً في يده, وعندما قبض عليه تبيّن أنّه كان يحمل رسالة من الإمام داخل هذه العصا, وأثناء قيامه بالكوفة, وبداية أمره, وأخذ البيعة له, كان لا يعلم بمكان إقامته إلاّ الخلّص من أصحابه, ويتنقّل من مكان لآخر, وإذا اضطّروا لإدخال أحد عليه, كانوا يغطون على رأسه بقناع, ويموّهون به ,حتّى يصل بين يديه, ثمّ يعيدوه بهذه الطريقة, فلا يدري أين ذهبوا به.
مناظراته مع أهل الشام وهشام:-
كان والي هشام على المدينة, خالد بن عبدالملك بن الحارث, فلمّا اشتدّ ظلمه, وأذيّته لأهل البيت, وللإمام زيد, وصبر على ذلك حتّى ضاقت عليه نفسه, رأى أن يذهب إلى هشام, يشكوا خالداً إليه, فلم يأذن له بالدّخول عليه, فكتب إليه الإمام كتاباً يطلب فيه مقابلته, فأعاده هشام إليه, وقد كتب في أسفله, إرجع إلى منزلك, فتكرّرّ ذلك, وزيد يقول: (والله لا أرجع إلى خالدٍ أبدا), ومكث هناك فتره, وهشام يتجاهل قدومه, وأقام الإمام زيد في الجامع الكبير, يلقي الدّروس, والمحاضرات, والتفّ النّاس حوله, فبلغ خبره هشام, فخاف أن يؤلّبّ النّاس عليه, فجمع علماء الشّام, وأرسلهم لمناظرته, فدخلوا عليه ذات يوم, وقالوا له: يا زيد, نحن الكثرة, وأنتم القلّة, ويد الله مع الجماعة, ومن شذّ عن الجماعة فهو في النار, إلى آخر كلامهم, ودعوه لطاعة هشام واتّباعه, فحمد الله وأثنى عليه, وصلّى على النبيّ وآله ثمّ قال: (إنّ الكثرة هم أهل الحقّ وإن قلّوا, وإنّ القلّة هم أهل الباطل وإن كثروا, وإنّ الله ما ذكر القلّة في كتابه إلاّ وامتدحهم, وما ذكر الكثرة إلاّ وذمّهم, وتلى عليهم الآيات القرآنيّة, في مدح القلّة, وذمّ الكثرة), فأفحمهم جميعاً, وعادوا خائبين.
وله رسالة طبعت ضمن مجموعه, في مدح القلّة, وذمّ الكثرة, فلمّا علم هشام بذلك, عظم خوفه منه, واشتدّ غضبه, وقرّرّ الإذن له بالدّخول, وحشر مجلسه بالكثير من أعوانه, وأمرهم بالتّزاحم في المجلس, حتّى لا يرى مكاناً يجلس فيه, وأوعز إليهم بالحديث مع بعضهم بعض, وعدم الإكتراث بدخول زيد, وإذا ألقى السّلام والتّحيّة, فلا يردّوها عليه, لإذلال الإمام, وهزيمته نفسيّاً, فلمّا دخل عليهم, وألقى السّلام, لم يردّوا عليه, ولم يلتفتوا إليه, فكرّرها ثلاثاً, ثمّ قال: السّلام عليك أيّها الأحول, وكان هشام أحول العينين, وله رأس كبير, فسكت كلّ من في المجلس, واشتاط هشام غضباً, وقام من على كرسيّه, فقال له الإمام: يا هشام أوصيك بتقوى الله وطاعته, فقال هشام: أو مثلك يا زيد يوصيني بتقوى الله, فقال: يا هشام ليس هناك أحدٌ من خلق الله, فوق أن يُوصَى بتقوى الله, ولا أحدٌ أدنى من أن يُوصِي بذلك, فغضب هشام, وقال له: أأنت زيد المؤمّل للخلافة؟ وما أنت وذاك وأنت بن أمة؟ فقال الإمام: يا هشام إنّ الأمة لا تقعد بولدها عن بلوغ الغاية, ولو كان ذلك كذلك, لما بعث الله نبياً هو بن أمة, وجعله أبا العرب, وأبا خير النبيّين, وهو إسماعيل بن إبراهيم, وكانت أمّه مع أمّ إسحاق كأمّي مع أمّك, وما تقصيرك برجل جدّه رسول الله, وأبوه عليّ بن أبي طالب, فوقع كلام الإمام عليه كالصاعقة, وكان في مجلسه يهودي فأومئ إليه, فسبّ رسول الله, فانتهره زيد (ع), وقال: يا كافر, أما والله لئن تمكّنت منك لأختطفنّ روحك, فقال هشام: مهٍ يا زيد, لا تؤذ جليسنا, فخرج الإمام وهو يقول: والله ما كره قومٌ قطّ حرّ السّيوف إلاّ ذلّوا, ثمّ إنّ هشام سأل حراسته ما ذا كان يقول زيد عند خروجه؟ فأخبروه, فقال: الويل لكم, ألستم زعمتم أنّ أهل هذا البيت قد انقرضوا, لا لعمر الله ما انقرض قومٌ هذا خلفهم.
رسالته إلى علماء الأمة:-
وجه (ع) رسالته إلى علماء الأمة يستحثهم فيهم على الجهاد في سبيل الله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وحذرهم من مهادنة الظالمين وموالاتهم, وبين لهم دعوته, واستنهض همهم لمناصرته, وممّا قاله لهم فيها: (يا علماء السوء إنّما أمنتم عند الجبّارين بالإدهان, وفزتم بما في أيديكم بالمقاربة, وقربتم منهم بالمصانعة, قد أبحتم الدين, وعطّلتم القرآن, فعاد علمكم حجةً لله عليكم, وستعلمون إذا حشرج الصدر, وجاءت الطّامة, ونزلت الدّاهية, فيا علماء السّوء أنتم أعظم الخلق مصيبة, وأشدّهم عقوبة, إن كنتم تعقلون, ذلك بأنّ الله قد احتج عليكم بما استحفظكم, إذ جعل الأمور ترد إليكم, وتصدر عنكم, الأحكام من قبلكم تلتمس, والسنن من جهتكم تختبر, يقول المتبعون لكم: أنتم حجّتنا بيننا وبين ربّنا, فبأيّ منزلة نزلتم من العباد هذا المنزلة, فو الّذي نفس زيد بن عليّ بيده, لو بيّنتم للنّاس ما تعلمون, ودعوتموهم إلى الحقّ الّذي تعرفون, لتضعضع بيان الجبّارين, ولتهدّم أساس الظّالمين, ولكنّكم اشتريتم بآيات الله ثمناً قليلا, وأدهنتم في دينه, وفارقتم كتابه), إلى أن قال: (فيا علماء السوء محوتم كتاب الله محواً, وضربتم وجه الدين ضرباً, فندّ والله نديد البعير الشارد, هرباً منكم, فبسوء صنيعكم سفكت دماء القائمين بدعوة الحقّ من ذرية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم, ورفعت رؤوسهم فوق الأسنّة, وصفّدوا في الحديد, وخَلَصَ إليهم الذّلّ, واستشعروا الكرب, وتسربلوا الأحزان, يتنفسّون الصّعداء, ويتشاكون الجهد, فهذا ما قدمتم لأنفسكم, وهذا ما حملتموه على ظهوركم, فالله المستعان, وهو الحكم بيننا وبينكم, يقضي بالحق وهو خير الفاصلين). وهذه مقتطفات قليلة منها, ويجب نشرها والاطلاع عليها كاملة, خاصّة في هذه المرحلة الخطيرة, وتنامى الدّور السّلبي للعلماء, وتعطيلهم للحقّ ونبذهم لكتاب الله, والجهاد في سبيله, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر.
البداية الأولى للخروج:-
عزل هشام واليه على العراق خالد القسري, وولّى يوسف بن عمر الثقفي, وكان ظالماً شديداً, وسجن يوسف خالداً, وطالبه بتسديد الأموال, فادّعى مالاً عند زيد بن عليّ وآخرين, فكتب يوسف إلى هشام يخبره بذلك, فطلبهم هشام إليه, فأنكروا فقال هشام: فإنّا باعثون بكم إليه, يجمع بينكم وبينه, فقال الإمام زيد: لا تبعث بي إلى هشام, وما كان صانعاً بي فاصنعه أنت, فقال هشام وما الذي تخافه من يوسف, فقال: أخاف أن يتعدّى علينا فقال هشام: إنّي باعث إليه بكتاب ورسول, وبعثهم إليه, وكتب له: (أمّا بعد: فإذا قدم عليك زيد بن علي, ومن معه فاجمع بينهم وبين يوسف, فإن أقرّوا بما ادّعى عليهم, فسرّح بهم إليّ, وإن هم أنكروا فاسأله البيّنة, فإن لم يقمها, فاستحلفهم بعد صلاة العصر في المسجد, بالله الّذي لا إله إلاّ هو ما استودعهم وديعة, ولا له قبلهم شيء, ثمّ خلّ سبيلهم), فلمّا وصلوا إلى يوسف, سألهم عن المال فأنكروا, فهدّد يوسف زيد بن علي, وتوعده, فقال له: (دعني من إبراقك وإرعادك, فلست من الّذين في يدك تعذّبهم, إجمع بيني وبين خصمي, واحملنى على كتاب الله وسنة نبيّه, لا بسنّتك وسنّة هشام), فأخرج إليهم خالداً, وقال هؤلاء الذين ادّعيت عليهم مالاً, فقال خالد: والله مالي قبلهم قليل ولا كثير, فغضب يوسف وشتمه, ثمّ عذّبه حتّى ظنّ أنّه قتله, فلمّا كان بعد صلاة العصر, أخرجهم إلى المسجد, فاستحلفهم فحلفوا, فكتب إلى هشام يخبره بذلك فقال: خلّ سبيلهم, وما كانت إلاّ خطّة من يوسف ليأخذهم بها, وأقام زيد بعد خروجه أياماً في الكوفة, وجعل يوسف يستحثّه بالخروج إلى الحجاز, وهو يتعلّل, وكان قد كتب له هشام بذلك, مخافة التفاف الشيعة حوله, فجدّ يوسف وألحّ عليه بالخروج, وأرسل معه رسل من قبله حتّى بلغ القادسيّة, فلحقت به الشيعة, وقالوا له: إلى أين تخرج عنّا يا بن رسول الله رحمك الله, ومعك مائة ألف سيف من أهل الكوفة, والبصرة, وخراسان, يضربون بني أميّة بها دونك, فأبى وقال: (لست آمن غدركم, كفعلكم بجدّي الحسين, وعليّ, وغدركم بعمّيّ الحسن, واختياركم عليه معاوية), فقالوا والله لا نفعل, أنفسنا دونك يا بن رسول الله, وأعطوه العهود, والمواثيق على ذلك, فعزل متاعه عن متاع بن عمّه, فقال له: لم ذلك فقال: (أجاهد بني أميّة, والله لو أعلم أن تؤجّج لي نار بالحطب الجزل, فأقذف فيها, وأنّ الله أصلح لهذه الأمة أمرها لفعلت), فقال له: الله الله في قوم خذلوا جدك وأهل بيتك, فقال:
فإن أقتل فلست بذي خلود
وإن أبق اشتفيت من العبيد
ورجع إلى الكوفة, ولبث بها ثلاثة عشر شهراً, شهرٌ منها بالبصرة, وأقبلت الشيعة إليه يبايعونه حتّى أحصى ديوانه, خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصّة, غير أهل المدائن, والبصرة, وواسط, والموصل, وخراسان, والرّيّ, وجرجان, وأرسل دعاته إلى الآفاق يأخذون له البيعة, فبايعه ثمانون ألف, وأمر من بايعوه بالتهيؤ والإستعداد للجهاد, ووجّه رسالته الشهيرة إلى علماء الأمّة.
نـــــصّ البيعة:-
كان الناس لا يعرفون موضع إقامته, وكان أصحابه يدخلون الناس عليه, وهم لا يبصرون شيئاً فيبايعونه, وكانت بيعته الّتي يبايع النّاس عليها, أنّه يبدأ فيقول: (إنا ندعوكم أيّها النّاس إلى كتاب الله, وسنة نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم, وإلى جهاد الظّالمين, ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحربّ, أتبايعونا على هذا؟), فإن قالوا نعم, وضع يده على يده فيقول: (عليك عهد الله وميثاقه وذمّته, وذمّة رسوله, لتفيّن ببيعتنا, ولتقاتلن عدوّنا, ولتنصحنّ لنا في السّرّ, والعلانية), فإذا قال نعم: مسح يده على يده ثمّ يقول: “اللهمّ اشهد”.
منهم الرّوافض؟:-
يدور حديث واسع عن الرّوافض, ومنهم؟ ويحرّف هذا المصطلح بشدّة, ويراد الباسه ثوباً آخر, وفي الحقيقة أنّ الرّوافض, هم الّذين رفضوا الجهاد مع زيد بن علي, ومع أهل البيت, ورسول الله هو من أطلق عليهم هذه التسمية, ولا يوجد تفسيراً غير هذا, وكانت بداية ظهورهم مع زيد بن علي (ع), وذلك أنّه لمّا ظهر الإمام زيد, ودعا النّاس إلى نصرته, أجابته الشيعة, وكثير من غيرها وقعد, عنه قومٌ آخرون وقالوا له: لست أنت الإمام قال: فمن هو؟ قالوا: ابن أخيك جعفر, قال لهم: إن قال جعفر أنّه الإمام فقد صدق, فاكتبوا إليه واسألوه؟ قالوا الطريق مقطوع, ولا نجد رسولاً إلاّ بأربعين ديناراً, قال هذه أربعون ديناراً, فاكتبوا إليه؟ فكتبوا, وارسلوا إليه, ثمّ جاءوا إليه فقالوا: إنّه يداريك, فقال لهم: ويلكم إمام يداري من غير بأس, أو يكتم حقاً, أو يخشى في الله أحداً؟, فاختاروا منّي, إمّا أن تقاتلوا معي, وتبايعوني على ما بويع عليه علي, والحسن, والحسين(ع), أو تعينوني بسلاحكم, وتكفوا عنّي أسلحتكم؟ قالوا: لا نفعل, قال: الله أكبر, أنتم والله الرّوافض الذي ذكر جدّي رسول الله, قال: ((سيكون من بعدي قومٌ يرفضون الجهاد مع الأخيار من أهل بيتي, ويقولون: ليس عليهم أمر بمعروف ولا نهيٌ عن منكر, يقلّدون دينهم, ويتّبعون أهوائهم)), ولا يوجد أثر غير هذا, وهؤلاء الرّوافض هم الّذين رفضوا الجهاد مع الإمام زيد, ويرفضون الجهاد مع الأخيار من أهل البيت(ع), أمّا الّذين اتبعوه, وجاهدوا معه فهم الزيديّة, ولتمسّكهم به, وموالاته فقد سمّوا بالزيدية.
الترتيب والإستعداد للخروج:-
أمر الإمام زيد أصحابه بالإستعداد, والتهيؤ للخروج, وضرب لهم موعداً ليلة الأربعاء أوّل ليلة من صفر سنة 122هو وجعل شعارهم, (يا منصور أمت), وهو شعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فذهب رجل إلى يوسف بن عمر الثقفيّ حاكم العراق, وأخبره بذلك, فكتب إلى عامله على الكوفة الحكم بن الصّلت, وأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم, ويحصرهم فيه, فأرسل إليهم الشّرط, وأحضروهم جميعاً إلى المسجد, ونادوا برأت الذمّة ممّن لم يخرج إلى المسجد, وطلب رجلين, ظنّ أنّ زيد لديهما, فلمّا علم بمكانه, أمر يوسف بهما, فضربت أعناقهما, وطلب زيد في منزل معاوية بن إسحاق فخرج ليلاً, واضطرّ لإعلان الخروج قبل الموعد المحدّد, عندما اكتشف أمره, وخرج ليلة الأربعاء 23 محرّم سنة 122ه, في ليلة شديدة البرد, ونادى أصحابه بشعار: (يا منصور أمت), طيلة تلك الليلة, ونهار ذلك اليوم, ونادى أصحابه: (معاشر المسلمين أجيبوا دعوة بن نبيكم, ولا تنقضوا بيعتكم), فلم يجتمع له ممّن بايعه سوى ثلاثمائة رجل, فقال (ع): (سبحان الله أين من بايعنا), فقيل: إنهم محتبسون في المسجد, فقال: (لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر).
صـــــفة خــــروجه (ع):-
خرج على أصحابه, على برذون أشهب, في قبا أبيض, ودرع تحته, وعمامة, وبين يديّ قربوسه مصحف منشور, فقال لهم: (سلوني قبل أن تفقدوني, فإنّكم لن تسألوا مثلي, والله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلاّ أنبأتكم بها, ولا تسألوني عن حرف من سنّة رسول الله إلاّ أنبأتكم به, ولكنّكم زدتم ونقصتم, وقدّمتم وأخرتم, فاشتبهت عليكم الأحاديث, والله ما وقفت هذا الموقف, إلاّ وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه هذه الأمّة), ثمّ قال: (أعينوني على أنباط أهل الشّام, فو الله لا يعينني عليهم أحد, إلاّ جاء يوم القيامة آمناً حتّى يجوز الصّراط), ثمّ قال: (نحن الأوصياء والنّجباء, والعلماء, ونحن خزّان علم الله, وورثة وحي الله, وعترة رسول الله, وشيعتنا رعاة الشّمس والقمر, والله لا يقبل الله التوبة إلاّ منهم, ولا يخصّ بالرّحمة أحداً سواهم).
ثمّ كتّب كتائبه, ورتّب صفوف أصحابه, وأخذ يرفع من معنوياتهم, ويشحذ هممهم, ويشدّ عزائمهم, ثمّ قال: (اللهمّ لك خرجت, وإياك أردتّ, ورضوانك طلبت, ولعدوّك نصبت, فانتصر لنفسك ولدينك, ولكتابك, ولنبيّك, ولأهل بيت نبيّك, ولأوليائك من المؤمنين, اللهمّ هذا الجهد منّي, وأنت المستعان).
فلمّا خفقت الرايات فوق رأسه, فرح بذلك وسعد به كثيراً, ورفع يديه إلى السماء ثمّ قال: (الحمد لله الذي أكمل لي ديني, والله لقد كنت أستحي أن أرد على رسول الله, ولم آمر في أمّته بمعروف, ولم أنه عن منكر), ثمّ قال: (والله ما أبالي إن أقمت كتاب الله وسنة رسول الله, أن تؤجّج لي نار, ثمّ أقذف فيها, ثمّ صرت بعد ذلك إلى رحمة الله, والله لا ينصرني أحد, إلاّ كان في الرفيق الأعلى, مع محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم, وعليّ, وفاطمة, والحسن, والحسين عليهم السّلام, ويحكم أما ترون هذا القرآن بين أظهركم, جاء به محمد صلى الله عليه وآلة, ونحن بنوه, يا معشر الفقهاء, و يا أهل الحجى, أنا حجّة من الله عليكم, هذه يدي مع أيديكم, على أن نقيم حدود الله, ونعمل بكتاب الله, ونقسم بينكم فيئكم بالسويّة, فاسألوني عن معالم دينكم, فإن لم أنبئكم بما سألتم, فولّوا من شئتم, ممّن علمتم أنّه أعلم مني, والله لقد علمت علم أبي علي بن الحسين, وعلم عمي الحسن, وعلم جدّي الحسين عليهم السلام, وعلم عليّ بن أبي طالب, وصيّ رسول الله, وعيبة علمه, وإنّي لأعلم أهل بيتي, والله ما كذبة كذبة, منذ عرفت يميني من شمالي, ولا انتهكت محرماً, منذ عرفت أنّ الله يؤاخذني, هلّموا فسلوني).
وكان يقول لأصحابه: (البصيرة البصيرة, ثمّ الجهاد).
ملــــحمة الإنتصـــــار:-
رتّب الإمام أصحابه, ونظّمهم, وعددهم ثلاثمائة رجل, وجعل على ميمنته نصر بن خزيمة, وعلى ميسرته معاوية بن اسحاق, واحتشد من جيش أهل الشّام قرابة خمسة عشر ألف مقاتل, ثمّ مضى (ع) إلى مكان يسمى: (جبّانة الصّيادين), واعترضته كتائب جيش الشّام, فحمل عليهم كأنّه الّليث, حتّى هزمهم, ثمّ مضى, حتّى وصل (الكناسة), فلقيته كتائب الشّامين, فحمل عليهم في أصحابه حتّى هزمهم, ثمّ مضى حتّى وصل (المقبرة), ويوسف بن عمر واقف على تلّ يراقب الحرب, وواصل تقدّمه حتّى دخل الكوفة, فحمل عليهم أهل الشّام, فقاتلوهم حتّى هزموهم, ثمّ قال الإمام (ع), لنصر بن خزيمة: يا نصر بن خزيمة أتخاف أهل الكوفة جعلوها حسينيّة؟ فقال له نصر: جعلني الله فداك أما أنا فوالله لأضربّن بسيفي هذا معك حتّى أموت, ثمّ خرج زيد بأصحابه نحو المسجد, ليفكّ الحصار عن أصحابه, فخرج إليهم جيش أهل الشّام, فاقتتلوا قتالاً شديداً, وانهزم الشّاميون هزيمة منكرة, وتبعهم الإمام زيد حتّى انتهوا إلى موضع يسمّى: (باب الفيل), وجعل أصحاب الإمام زيد, يدخلون راياتهم من فوق أبواب المسجد, ويقولون: يا أهل المسجد اخرجوا, وناداهم نصر بن خزيمة: يا أهل الكوفة, (اخرجوا من الذلّ إلى العزّ, وإلى الدّين والدّنيا) فلم يخرج منهم أحد, وأهل الشّام يرمونهم من فوق المسجد بالحجارة, فبعث يوسف بن عمر كتائب جديدة لقتالهم, فاقتتلوا قتالاً شديداً, وهزموا أشرّ هزيمة, وسقطوا ما بين قتيل وجريح, واحصي من قتل من الشّاميّن في ذلك اليوم, أكثر من ألفيّ رجل, ورجع أهل الشّام مساء يوم الأربعاء, وهم بأسوء حال.
القتال في اليوم الثّاني:-
غضب يوسف بن عمر الثّقفي غضباً شديداً, وأنّف قائد الجيش, وشتمه, وأمّرّ على الجيش رجلاً آخر وعبّئهم تعبئةً كامله, وأرسلهم يوم الخميس, لقتال زيد وأصحابه, فالتقوا فنزل الشّاميّون على الأرض, واقتتلوا قتالاً شديداً, وكان رجل قد قال ليوسف بن عمر: والله لئن امتلأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنّه, أو يقتلني, فدفع إليه يوسف سيفاً لا يمرّ بشيء إلاّ قطعه, وقال له: خذ هذا السّيف, فلمّا رأى نصر, حمل عليه, وضربه بذلك السّيف فقطع فخذه, وضربه نصر فقتله, وقتل نصر من تلك الضربة, ثمّ قاتلهم زيد حتّى هزموا, وانصرفوا بأسوء حال, فلمّا كان الّليل عبأهم يوسف, وجهّزهم للقتال في اليوم الثالث, واستبان الإمام زيد أصحابه, وقد كثر فيهم الجراح, فجعل يدعوا, ويقول: (اللهمّ إنّ هؤلاء يقاتلون عدوّك, وعدوّ رسولك, ودينك, الّذي ارتضيته لعبادك, فأجزهم أفضل ما جازيت أحداً من عبادك المؤمنين), ثمّ قال لهم: (أحيوا ليلتكم هذه بقرآءة القرآن, والدّعاء, والتّهجد, والتّضرّع إلى الله تعالى, فلا أعلم والله, أنّه أمسى على الأرض, عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم).
القتال في اليوم الثالث, ولؤم بني أميّة:-
في اليوم الثالث, سرّحهم يوسف للقتال, فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً, حتّى هزمهم زيد وأصحابه, وأخرجوهم من ذلك المكان, وتبعهم حتّى فلّ عضدهم, وشرّد بهم من خلفهم, ثمّ خرج رجل من أهل الشّام من بين الصّفوف أثناء المعركة, وجعل يشتم فاطمة بنت رسول الله ويسبّها, فتألّم الإمام زيد ألماً شديداً حتّى بكى(ع), وقال: (أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله, أما أحد يغضب لرسول الله, أما أحد يغضب لله), فخرج رجل من أصحابه متسلّلاً, حتّى صار خلف الشّامي فضرب عنقه فاحتزه, وجاء برأسه إلى الإمام زيد, فجعل الإمام زيد يقبّل بين عينيه, ويقول: (أدركت والله ثأرنا, أدركت والله شرف الدّنيا, والآخرة, وذخرها), وكبّر أصحاب الإمام زيد, وحملوا عليهم بشدّة, وجعلت خيل أهل الشّام لا تثبت لخيل الإمام زيد, وشدّ عليه السّلام على الصّف الأوّلّ حتّى هزمه, والثّاني, والثّالث, حتّى أجلاهم, وجعل يقول: (ولئن متّم أو قتلتم لإلى الله تحشرون).
إستشهاده عليه السلام:-
لم يستطيعوا الصّمود في وجه تلك الثّلة المؤمنة, فكتب قائد الجيش إلى يوسف بن عمر, بما يلقاه من الزّيديّة, وسأله أن يبعث إليه الرماة, فبعث إليه بكتيبة من القيقانية, وهم رماة ماهرين, وجعلوا يرمونهم بالسّهام, والنّبال, وقاتل معاوية بن إسحاق قتالاً شديداً حتّى قتل, وثبت الإمام زيد في من تبقّى من أصحابه, فلمّا كان جنح الليل, رمي (ع) بسهم, فأصاب جانب جبهته اليسرى, حتّى غار في الدّماغ, فرجع ورجع أصحابه, وأهل الشّام يظنّون أنّهم ما رجعوا إلاّ لليل والمساء, وكان قد أصيب جسده الشريف ب(بثلاثة عشر سهماً), ولو لا السّهام والنّبال لما قدروا عليهم أبدا, ودخل بيت أحد أصحابه, وقال أدعوا لي ولدي يحيى, فدعوه, فدخل عليه, وجعل يمسح الدّم عن وجيه أبيه, ويقول: ابشر يا بن رسول الله, تقدم على رسول الله, وعليّ, والحسن, والحسين, وخديجة, وفاطمة, وهم عنك راضون, قال: صدقت يا بنيّ, فما أنت صانع بعدي؟, قال: أجاهدهم والله, إلاّ أن لا أجد أحداً يعينني.
قال: نعم يا بنيّ جاهدهم, فوالله إنّك لعلى الحقّ, وهم على الباطل, وإنّ قتلاك في الجنّة, وقتلاهم في النّار.
وانطلق ناس من أصحابه, فجاءوا بطبيب, فنظر إليه, وإذا السّهم قد غار في جبينه, حتّى بلغ مؤخرة رأسه, فقال: إن نزعته من رأسك متّ, فقال: الموت أيسر عليّ ممّا أنا فيه, فانتزعه من جبينه, ففاضت روحه الطاهرة إلى الله, واستشهد(ع), وكان ذلك يوم الجمعة, 25 محرّم الحرّام, سنة 122ه, وعمره يوم استشهد (47) سنة.
وبعدها نبشوه من قبره, وتركوه مصلوباً على جذع بكناسة الكوفة لسنين, ثمّ استنزلوه, وأحرقوه, وذرّوا رماده في نهر الفرات.
لم يشفهم قتله حتى تعاقبه
نبشٌ وصلبٌ وإحراقٌ وتغريقُ
وخسرة الأمة بمقتله الخسارة العظيمة, وكما يقول السيد: (من أعظم نكبات الأمة, أن تفقد عظماء, كالحسين, وعلي, والحسن, وزيد, عليهم السلام, وغيرهم من أعلام الهدى, إنّها خسارةٌ عظيمة).